الطريقة الحموية: النشأة والتأثير
4 ساعات مضت
الأخبار
55 زيارة
الحموية مشتقة من اسم مؤسسها الشيخ أحمد حماه الله بن محمد بن سيدنا عمر التيشيتي (نسبة لمدينة تيشيت في الشرق الموريتاني)، المولود في حدود سنة 1882 للميلاد في قرية أنيور المالية لأب موريتاني ينتمي للنسب الشريف، وأم إفريقية مالية من قومية الفلان.
والحموية إحدى أبرز فروع الطريقة التجانية في المنطقة. وقد أخذ مؤسسها أحمد حماه الله الورد الصوفي التجاني وهو في حدود الثامنة عشرة من عمره، سنة 1900م عن العالم الصوفي الجزائري الشيخ سيدي محمد الأخضر الذي قَدِمَ عليه في مدينة أنيور. ومن المفارقات أَن جَدَّ الشيخ حماه الله المباشر سيدنا عمر كان زعيما في الطريقةِ القادريةِ، فكيف يَعْدِل حفيدُه عن طريقته إلى طريقة صوفية أخرى مغايرة؟
ليس لدينا جواب حاسم على هذا السؤال، غير أن هذا التصرف الذي قام به الشيخ حماه الله من مبايعة طريقة صوفية غير طريقة جده في مجتمع شديد التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد إلى حد التعصب، يؤكد أنه كان مستقلا في تفكيره، ومتحررا من قيود المجتمع وسلطانه. ولعل هذا من الميزات التي جعلت الشيخ الأخضر يختاره من بين أولئك الذين حضروا مجالسه في أنيور، ليقلده زعامة الطريقة التجانية؛ رغم حداثة سنه. إضافة إلى ما لاحظه معلمو الشيخ حماه الله ومربوه من أمارات الولاية عليه في سن مبكرة.
ولا يعرف عن الشيخ حماه الله أنه تعمق كثيرا في دراسة علوم الدين بالطريقة الرسمية التي كانت متبعة آنذاك بالمنطقة، بل كل ما تذكره المصادر التاريخية بهذا الصدد أن والده أرسله وهو صغير إلى أرض أجداده في مدينة تيشيت ليدرس على ولد الشيخ حماه الله ولد بُويَ أحمد (الذي سيصبح فيما بعد أحد مريديه) سنة 1893م، ولم يُمْضِ أكثر من سنة حتى رجع إلى والده، فأرسله إلى شيوخ آخرين في مالي ولكنه لم يلبث مع أي منهم أكثر عدة شهور.
وبشيء من النظر والتدقيق فيما تثبته الروايات المتعددة بشأن دراسة الرجل المنظمة، يمكننا أن نستنج منها أن حصيلة دراسته على الشيوخ لم تتجاوز حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ أولية في علوم الفقه واللغة. ولكن الروايات تتفق جميعها على أن الرجل كان “يتقن اللغة العربية، بنحوها وصرفها وبيانها، كما كان يتقن البمبارية والسوننكية والبولارية والآزيرية”.
وإذا نحن تجاوزنا معرفته باللغات الإفريقية بحكم أن أمه إفريقية من عرقية الفلان، وأن محيطه الذي نشأ فيه محيط إفريقي في ثقافته وفي كل مناحي حياته، فمن أين له إتقان اللغة العربية لو لم يكن ذلك نتيجة دراسة وتعلم؟ لا نتحدث هنا عن معرفة بسيطة بالعربية، وإنما نتحدث عن رجل متقن لعلوم العربية من نحو وصرف وبيان.
يذكر الدكتور محمد سالم الصوفي أن حماه الله عندما نفاه المستعمر الفرنسي إلى مدينة المذرذرة في الجنوب الموريتاني والتقى بعلمائها، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الاعتراف له بأنه “مفسر ألمعي، ولغوي متبحر، وفقيه متمكن، ومن أكابر العلماء وجهابذة العارفين”. ويلاحظ الباحث الدكتور علي تراورى أن خصوم الشيخ حماه الله “في موريتانيا لم يشككوا أبدا في عمق علمه. وكانوا يعتبرونه في الآن ذاته مفسرا رائعا للقرآن الكريم، ونحويا فذا وفقيها محنكا”
فمن أين لحماه الله كل هذا العلم؟ ، ودراسته على الشيوخ لم تتجاوز فترة وجيزة جدا وفي سن مبكر من حياته؛ لم يتجاوز محصوله العلمي فيها سوى حفظ القرآن ودراسة مبادئ في الفقه والنحو.
ليس هناك ما يمكن الجزم به بشأن تفسير هذه المسألة، ولكن بالاستعانة بما تذكره الروايات من أن حماه الله كان في غاية النباهة وحدة الذكاء، ” فكان يحفظ السورة بمجرد سماعها”، وكانت لديه “مكتبة ضخمة ومتنوعة وثرية ونخبوية تضم مختلف الفنون والعلوم من فقه وتفسير ولغة وتاريخ ومنطق” وتحوي 1757 كتابا
بالاستعانة بهذه الروايات. يمكن القول: أن ذكاء حماه الله ربما يكون هو الذي منحه القدرة الذاتية على تعليم نفسه بنفسه وتعويض ما فاته من تحصيل علمي على يد الشيوخ، فانكب على مكتبته الضخمة بحثا ومطالعة، فكان ذلك سببا في تكوينه الذاتي وبنائه العلمي المتين.
هذا هو التفسير الأقرب عندنا للقضية، وهناك تفسير آخر يرى أن علم الشيخ حماه الله علم وهبي أو “علم لدني”، وهذا التفسير هو الذي جنح له أغلب أتباع الشيخ ولديهم قصصهم التي يروونها بهذا الشأن، والتي تتحدث عن كرامات الشيخ وعن الخوارق التي ظهرت له.
كان حماه الله إلى جانب ذكاءه المفرط وثقافته الواسعة، يتمتع بصفات قيادية عالية وبجاذبية فريدة، وفي هذا السبيل نجد شهادة المؤرخ الفرنسي “بول مارتي” المشهور بدراساته عن الساحل الإفريقي حيث يقول: “إن تأثير الشريف حماه الله هو تأثير عظيم، والتقدير الذي يتمتع به هو تقدير خارق للعادة بالنسبة إلى شاب مثله” ، كما كان زاهدا متواضعا وكريما معطاء، يفرق كل ما يجده على أتباعه ومريديه.
وقد منحه انتماؤه الاجتماعي الممتزج بين قومية البيضان وقومية الفلان مقبولية في مجتمعه، فهو من ناحية شريف – والمعروف عن المجتمعات الإفريقية أنها تمنح للشرفاء التقدير الكبير- ومن ناحية أخرى له خؤولة من عرقية الفلان وهي من أكثر القوميات انتشارا وتمددا ليس في الساحل الإفريقي فقط، بل في إفريقيا كلها، وتمثل حوالي نسبة 11% من سكان جمهورية مالي(12).
وهكذا نرى أن موقع حماه الله الاجتماعي، إلى جانب شخصيته الجذابة وصفاته القيادية العالية وثقافته الواسعة ومعرفة الجيدة لِلُغَاتِ قومه، كانت من أكبر العوامل التي مكنته من التأثير الروحي والسياسي في مجتمعه –رغم حداثة سنه- ونشر طريقته التي عمَّت مختلف المناطق في وقت وجيز، فبايعه “علماء وشعراء وفقهاء ولاته وكيهيدي وتيشيت بموريتانيا، ونيورو والمرضية وبانمبة بمالي”، ومن هؤلاء العلماء الذين بايعوه : الشيخ محمد الدكوري ، والشريف ملاي إدريس البانمبي – وهو من أكثر العلماء احتراما في مالي – ومحمد يحي بن محمد المختار الولاتي – وهو من كبار علماء موريتانيا الذين يتمتعون بشهرة وصيت كبير- ومحمد المختار ولد أمباله عالم تشيت الكبير، وغيرهم، كما انضم إلى طريقته العالم الغيني الكبير “تييرنو علي بوبا ديان”.
ومما يؤكد على القوة والتأثير التي اكتسبتها الطريقة الحموية أن أتباع الطريقة الحافظية -وهي فرع من التجانية أسسها الشيخ محمد الحافظ العلوي الشنقيطي – أضحوا متضايقين من هيمنة الحموية واكتساحها للمنطقة، مع أن مؤسس الحافظية أخذها بشكل مباشر عن الشيخ أحمد التجاني، والشيخ حماه الله أخذ الطريقة بواسطة سيدي أحمد الخضر عن سيدي الطاهر بوطيبة التلمساني عن الشيخ أحمد التجاني.