من ذكريات التعليم إلى تأملات الثقافة (ومضة وفاء وتأمل في سوء الهضم الثقافي)
4 ساعات مضت
ثقافة و أدب
146 زيارة
في منتصف التسعينيات، تشرفتُ بالعمل إلى جانب بعض الأساتذة الأجلاء في ثانوية روصو، ومن بينهم الأستاذ الفاضل الشيخ باب ولد حمدي ولد الطالب أجود رحمه الله، الذي تربطني به علاقات تمتد جذورها عميقًا في التاريخ بين أُسْرتَيْنا المنتميتَيْن إلى المدرسة الصوفية الشاذلية.
وذات مرة، طلب مني أن أكتب تعريفًا لٱبائناوأشياخنا أبناء الأمين الكمليليين، خدمةً للأجيال التي لم تكن على دراية كافية بأولئك الأعلام.
حاولتُ التهرّب من الموضوع، نظرًا لقلة باعي في التأليف حول سِيَر العلماء، فجعلتُ من تخصّصي في العلوم الطبيعية ذريعة لعدم التعاطي مع طلب شيخنا.
ابتسم – رحمه الله – وخاطبني قائلًا:
> “فهمتُ سرّ تهرّبِك، تريد أن تلوذ بالطبّ التقليدي، لكن ذلك لن يمنعني من حثِّك على القيام بالمهمة.”
والعجيب أن ملخص هذا الحوار بيني وبينه ضمَّنتُه مقدمة كتاب الدر الثمين في التعريف بأبناء الأمين، لمّا يسّر الله للعبد الفقير أن يقوم بتأليفه بعد ذلك بفترة.
ولم تَفُت تلك المقدمة على شيخنا الجليل، علامة قطره وفريد عصره الشيخ محمد سالم ولد عبد الودود ، حين قرظه بالأبيات التالية:
يا أحمد السالم يا ذا الرسوخْ
تعريفُكم بالشرفاءِ الشيوخْ
نُصحٌ وبرٌّ و وفاءٌ لهمْ
وفيه للتاريخِ رَبُّ الشُّروخْ
فرحمةُ اللهِ عليهمْ
ولا زالَ لكم فوقَ الصروحِ الشموخْ
—
من المجالس العلمية إلى رحاب الفكر
والشيء بالشيء يُذكر، وعلى ذكر العلوم الطبيعية وما يتصل بها من مبادئ علم الطب، تذكرتُ موضوعًا كنت قد تناولتُه في معرضٍ سابق، وهو ما أسميته:
سوء الهضم الثقافي : الأسباب ، الأعراض ، العلاج ، الوقاية.”
إن الحديث مع أولئك الأعلام – رحمهم الله – لم يكن مجرد تذاكر في العلم، بل كان مدرسةً في الفكر والذوق والتربية. ومن رحِمِ تلك المجالس و وَهَجِ تلك الأرواح، تولَّدَ في نفسي تأملٌ طويل في واقعنا الثقافي، وكيف نُقبل على المعارف إقبال الجائع على الطعام دون أن نحسن *تمثُّلَها أو هضمها*.
ومن هنا انبثقت فكرة هذا المقال، تشبيهًا لحالٍ نعيشها أحيانًا، حين تتكدّس المعلومات في الذهن دون أن تتحول إلى فهمٍ ناضجٍ أو سلوكٍ رشيد.
ولأن لكل داءٍ سببه وأعراضه ودواءه، رأيت أن أتناول هذا *الداء الثقافي* من زواياه الأربع: *الأسباب، الأعراض، العلاج، والوقاية*، عسى أن يسهم ذلك في بناء وعيٍ متوازن، يُعيد للثقافة معناها، وللعلم رسالته، وللأمة عافيتها الفكرية.
• سوء الهضم الثقافي
الأسباب ، الأعراض ، العلاج ، الوقاية
كثيرًا ما نسمع عن سوء الهضم في الطب، حين يعجز الجسد عن تمثُّلِ ما يتناوله من غذاء، فيتحول النفع المَرْجُوُّ إلى عِبْءٍ *يُرهِق المعدة ويُثْقِل الجسد*.
لكن ثمة نوعًا آخر من الهضم لا يقل خطورةً عن سابقه، وهو ما يمكن أن نُسمِّيه *سوء الهضم الثقافي*؛ إذ تعجز *العقول* أحيانًا عن *تَمَثُّل* ما تستهلكه من معارف وأفكار، فتغدو الثقافة – بدل أن تكون نورًا وهداية – مصدرَ التباسٍ وتشويش.
أولًا: الأسباب
ينشأ سوء الهضم الثقافي من الإستعجال في التَّلقِّي دون تمحيصٍ، والانبهارِ بالمظاهر على حساب الجوهر، و الانتقائية المزاجيةِ في الأخٔذِ من الفكر، وضَعْفِ المنهجِ العلمي في التحليل والنقد، إضافة إلى غياب البيئة الثقافية السليمة التي تشجع على الحوار الراشد.
ثانيًا: الأعراض
من أبرز أعراض هذا الداء: الإدِّعاء دون الفهم، وخلط المفاهيم، والعجز عن تحويل المعرفة إلى سلوك، و
التقلب الفكري السريع بلا منهج ولا ميزان.
ثالثًا: العلاج
علاجه يكون في التدرُّج في الطلب، والقراءة الواعية المتأنية، والرجوع إلى الأصول، و
ملازمة العلماء، وممارسة النقد الذاتي الذي يصحح الفهم ويصقل الفكر.
—
رابعًا: الوقاية
أما الوقاية فتكمن في التواضع العلمي، والتمييز بين الغثِّ والسمين في منابع المعرفة، و الإعتدال في التلقي والعرض ، ثم الربط بين العلم والعمل حتى تثمر الثقافة سلوكًا راشدًا وأثرًا نافعًا.
خلاصة القول :
إن سوء الهضم الثقافي داءٌ صامت يُصِيب العقول حين تكثُر الموارد ويقلُّ الوعي بالتمحي.
ولاشفاء منه إلا بتهذيب النفس في طلب المعرفة، وتأصيل الفهم، وتربية الذوق العلمي
فكما أن الجسد لا ينتفع بالغذاء إلا بعد هضمه، فإن العقل لا ينتفع بالثقافة إلا بعد تدبرها وتمثّلها
فالتمهّل في الفهم خيرٌ من الإسراف في الحفظ،
و الثقافة الواعية خير من المعرفة المتراكمة بلا وعي ولا عمل.
سطره العبد الفقير إلى الله الغني به عما سواه الشيخ أحمدسالم بن أحمدو بتاريخ:28ربيع الٱخر 1447ه
الموافق :22أكتوبر2025م